الأخبار: نقولا ناصيف-
كما مع الموفد الفرنسي، كذلك مع خلفه القطري. يسهّلان الاستنتاجات والإيحاء بقرب المخارج، مع أنّ ما سمعاه واحد ممن التقياهم. عزّز موجة التفاؤل المصطنعة تحدّثهما عن «خيار ثالث»، فيما كلٌّ من فريقَيِ التناحر لم يتزحزح في الأصل عن خياره الأول.
مَن اطّلع على الأفكار التي حملها معه الموفد القطري جاسم بن فهد آل ثاني، لم يسعه سوى استخلاص عبارة مفيدة. الزائر ليس غريباً عن بيروت. لسنوات، كان إحدى قنوات التواصل بين جهاز أمن الدولة القطري والمديرية العام للأمن العام في تبادل معلومات عن الإرهاب والخلايا. حضر أكثر من مرة، وله صداقات مع ضباط نظرائه في الجهاز اللبناني. لم يكن آنذاك الأول أو من المتقدّمين بين أقرانه في أمن الدولة، مقتصراً دوره على التواصل. اليوم، مهمته الجديدة أمنية لا صلة لها بما اعتاد عليه. إلا أنها أكثر تعقيداً ممّا يفترض أو يتوقع. ليس فيها تبادل تقارير ومعلومات، بل الدخول في جوف الحوت اللبناني.
أما الأفكار المفيدة والبسيطة التي حملها معه ممّا لمسه محدّثوه، فتكمن في بضع معطيات؛ منها:
1 ـ يُعوّل على إحداث تغيير جوهري في مسار الاستحقاق: أن يتخلّى الثنائي الشيعي عن ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية، أو يقبل به الفريق المسيحي، أو الذهاب ـ وهو ما رامه ـ الى رئيس واقعي. الأجوبة التي تلقّاها بالغة السلبية من كليْهما. لا الأول يفكر في خيار ثان أو يطلبه ويتمسك بمرشحه، ولا الثاني جاهز للتنازل عن رفضه له. مع أن آل ثاني توقّع سلفاً قبل مجيئه أنه سيسمع ذيْنك الموقفَيْن المتصلّبين، إلا أنه قدّم حجّته لهما: لا يملك الثنائي الشيعي وحلفاؤه سوى 50 صوتاً في حدّ أقصى، وإذا انضمت إليه كتلة النائب جبران باسيل ـ المستبعد حصوله ـ توفر له النصف زائداً واحداً، دون تمكنه من انتخاب فرنجية. الحساب نفسه لدى الفريق الآخر، يملك الأصوات نفسها أو أكثر بقليل لمنع انتخاب فرنجية، إلا أنها تمنعه من انتخاب أيّ مرشح آخر بمن فيهم قائد الجيش العماد جوزف عون، غير الموافَق عليه من الثنائي الشيعي ما دام متمسكاً بمرشّحه. كلاهما عاجزان عن توفير ثلثَي الأصوات على الأقل في البرلمان لالتئامه.
2 ـ المعادلة الأحدث في حسبان الموفد القطري أن الاستحقاق بات بين فرنجية وعون. قبلهما، أخفقت معادلتان سابقتان تمثّلتا في ثنائية فرنجية والنائب ميشال معوض، ثم ثنائية فرنجية والوزير السابق جهاد أزعور. كلتاهما فشلتا في أن تفضيا الى طرد المرشحَين معاً من المعترك. المأزق نفسه اليوم في ثنائية رئيس تيار المردة وقائد الجيش. يتعذّر انتخاب أحدهما في ظل الانقسام السياسي والمذهبي الناشئ من حول ترشيحَيهما، مع أن معوض وأزعور ترشّحا فيما لم يفعل عون ولا يملك أن يفعل لموانع دستورية ويتصرّف على أنه غير معنيّ بالاستحقاق برمّته. وفيما يتوحّد الثنائي الشيعي وحلفاؤه حول فرنجية، ينقسم الفريق المسيحي على نفسه حيال ترشيح قائد الجيش: يرفضه باسيل، ولا تمانع به المعارضة المسيحية إذا أمكن من خلاله استبعاد انتخاب فرنجية.
الفكرة المفيدة للموفد القطري أن ثالث ثنائيات المرشحين يقتضي أن تكون آخرها، وتالياً استبعاد فرنجية وعون معاً، والذهاب الى ما سمّاه «الخيار الثالث». المفارقة في الأمر أن آل ثاني وضع اسم قائد الجيش في رأس لائحة الأسماء الأربعة التي حملها، مع علمه المسبق برفض الثنائي الشيعي اللائحة برمّتها، بمن فيها أول أسمائها. واقع الأمر أن اللائحة الفعلية لقطر هي الأسماء الثلاثة الآتية: اللواء إلياس البيسري والنائب نعمة افرام والوزير السابق زياد بارود. مغزى تسمية عون، أولها ينسجم والقول الفرنسي المأثور: لا يقلع المسمار إلا مسمار.
3 ـ مقدار ما تدغدغ فكرة «خيار ثالث» آمالاً ومشاعر بقرب أوان الحل، تبدو أبعد ما تكون عن الواقع. لم تعنِ الثنائي الشيعي شيئاً، ولم يتمكن آل ثاني من الحصول على أجوبة وافية من فريقَي الثنائي المسيحي باتفاقهما على أحد الأسماء الثلاثة التالية فيها بعد قائد الجيش. لعلّ أصعب ما في الدور القطري ـ وهو مصدر ضعفه ـ أنه لا يملك في لبنان كالأميركيين والسعوديين عدّة شغل وأدوات تتيح له إنجاح مهمته. هي حال الفرنسيين أيضاً، لا عدّة شغل جدية لديهم في الداخل، رغم ما يشاع عن تزايد حوارهم مع حزب الله وتقدمه. القطريون مثلهم. لا هؤلاء ولا أولئك هم الأولون في معادلة التأثير.
4 ـ ما فُهم في المهمة المعهودة الى قطر في مسعاها الوصول الى مرشح ثالث على نحو ما سبقها إليه الموفد الفرنسي الخاص جان إيف لودريان، أن تحرك آل ثاني لا ينطلق من تفويض الدول الخمس مقدار تصرّفه على أنها مبادرة قطرية بالذات يسهّل نجاحها إقناع الدول الأربع بالانضمام إليها. لا تخفي الدول الخمس تأييدها لانتخاب قائد الجيش، بيد أنها في المقابل متيقّنة من تعذّر انتخابه. ما قاله آل ثاني في جولته اللبنانية إن من الصعوبة بمكان انتخاب رئيس للبنان من دون موافقة حزب الله، هو نفسه ما قاله لودريان في اجتماع الدول الخمس في الدوحة في تموز الفائت.
5 ـ الوصول الى اتفاق أميركي ـ إيراني على البرنامج النووي أضحى أقرب من أي وقت مضى. متوقف على الإعلان عن حسن نية تطلبها إيران، متجاوزة ما كانت تصرّ عليه قبلاً، وهو الحصول على ضمانات بخفض العقوبات ورفع جزء منها. أولى إشارات حسن النية تولّي قطر وساطة بين الدولتين قضت بتسليم خمسة أميركيين في مقابل الإفراج عن ستة مليارات دولار محتجزة في كوريا الجنوبية. كان على الدوحة مضاعفة جهدها في إنجاح الوساطة بتسديد فروق تحويلات المليارات الستة بالعملة الوطنية لكوريا الى جنيف، ومن ثم إعادة تحويلها الى اليورو لإيداعها في مصارف قطرية. مئات ملايين الدولارات دفعتها فارق التحويلات بعد إصرار إيران على تسلّم المليارات الستة غير منتقصة. بعض الإشارات المماثلة المدلاة في بيروت في موازاة تحرّك الموفد القطري لانتخاب الرئيس، استعداد الإمارة للفور وضع مليار دولار وديعة في مصرف لبنان ما إن يصير الى الانتخاب.
6 ـ ليس خافياً أن حزب الله وضع سقفَين متلازمَين في تعاطيه مع الاستحقاق الرئاسي: أولهما مرتبط بوثوقه بفرنجية على أنه «الرئيس» الذي لا يطعنه على غرار ولاية الرئيس ميشال عون، وثانيهما تصرفه على أنه القوة الأولى في الداخل التي يقتضي بالفريق الآخر ـ لذاك السبب بالذات وأولاً ـ المجيء إليها للتفاهم على تسوية المرحلة المقبلة، بما فيها رئيس الجمهورية. ليست التسوية التي يبصرها تبادل تنازلات مع خصومه وتراجعه خطوة أو أكثر الى الوراء، بل تقدّم الآخرين إليه هو.