ساحة جامع الفنا الممتدة على مساحة 42 ألف متر مربع في مدينة مراكش المغربية هي قبلة السائحين من داخل المغرب وخارجه والقلب النابض للمدينة الحمراء التاريخية التي أُنشئت بين عامي 1070 و1072 ميلادية في عهد الدولة المرابطية.
وأُدرجت الساحة في قائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في 2001، وكما ورد وصفها على موقع المنظمة، فإن الساحة "تشكل مسرحا رائعا في الهواء الطلق تدهش دائما زائريها".
غير أن أدوار الساحة الشهيرة تغيرت بمرور الزمن من مكان للتثقيف والعلوم الدينية حيث كان الناس يقصدونها لطلب الفتوى من رجال الدين والجلوس في حلقات تحكي سيرة الرسول والغزوات والفتوحات وسير الأبطال، إلى ساحة للترفيه تجمع بين الحكواتيين والممثلين والمهرجين والمغنيين والموسيقيين والحواة.
ويقول جمال أبو الهدى، محافظ المباني التاريخية والمواقع الأثرية بجهة مراكش الحوز، إن ساحة جامع الفنا أنشئت في البداية كهمزة وصل بين قصر الخلافة (قصر الحجرة) والأحياء السكنية التي كانت تمثل ثقل المدينة العتيقة لمراكش.
وأوضح أبو الهدى في مقابلة مع وكالة أنباء العالم العربي (AWP) أن الساحة طيلة عقود من الزمن ظلت "همزة الوصل بين الحي المخزني (المنطقة التي تضم قصر الحاكم) والحي السكاني بالمدينة" قبل أن تتحول إلى منطقة تجارية في عهد الدولة السعدية التي حكمت المغرب وأجزاء من غرب أفريقيا في القرنين 16 و17.
غير أن دور مدينة مراكش ككل انحسر بعد انهيار الدولة الموحدية وانتقال الحكم إلى الدولة المرينية اعتبارا من العام 1269 لتصبح مدينة فاس العاصمة الفعلية للمغرب، واستمر هذا الوضع حتى انهيار الدولة المرينية وقيام الدولة السعدية.
وأضاف أبو الهدى أن مراكش استعادت مكانتها في عهد الدولة السعدية كعاصمة للبلاد وأصبح للساحة الشهيرة دور كبير وتحول اسمها من (الساحة الكبرى) إلى ساحة جامع الفنا، وهو الاسم الذي ظهر في وثائق الدولة السعدية.
وأكد محافظ المباني التاريخية والمواقع الأثرية بمراكش أن دور الساحة انتقل من همزة وصل بين الأحياء إلى منطقة تجارية من خلال إنشاء مكتب جمارك خاص بالتبادل التجاري بين أفريقيا وأوروبا، مشيرا إلى أن السلطان أحمد المنصور الذهبي أمر بإنشاء مسجد كبير باسم (جامع الهناء) في المدينة.
وأرجع أبو الهدى تسمية الساحة بهذا الاسم إلى الخراب الذي حل بمراكش بعد أن اجتاحها الطاعون وأودى بحياة السلطان المنصور الذهبي، ما جعل اسم المسجد يتحول من (جامع الهناء) إلى (جامع الفناء)، مشيرا إلى أن هذه الرواية وردت في كتاب (تاريخ السودان) الشهير لمؤلفه عبد الرحمن السعدي الصادر في العام 1655.
غير أن عبد الجليل الكريفة، أستاذ التعليم العالي في جامعة القاضي عياض بمراكش، قال إن شهرة الساحة ارتبطت بمسجد (الكتبية) وإن تسمية الساحة ارتبطت بقصر (الحجر)، مضيفا أن الروايات التاريخية تشير إلى أن الاسم قد يعني الفناء بفتح الفاء، أي العدم، أو ربما يرتبط بالفناء بكسر الفاء، أي الساحة الكبيرة.
وتتفق الكاتبة والشاعرة مليكة العاصمي، ابنة مراكش، مع الرأي القائل إن الفناء يعني الساحة الكبيرة، مشيرة إلى أن الموحدين الذين حكموا المغرب بين عامي 1121 و1269 بنوا الجامع الموحدي، الذي عُرف باسم جامع الكتبيين أو الكتبية، في نفس مكان جامع الفناء، وإن اسم (جامع الفِناء) استمر منسحبا على الفِناء بكسر الفاء، أو الساحة.
* أدوار مختلفة بمرور الزمن
أشار أبو الهدى، محافظ المباني التاريخية والمواقع الأثرية في مراكش، إلى أنه مع بداية القرن العشرين ظهر في الساحة عدد من المتاجر و(البريد المخزني) في عام 1907، والذي تحول فيما بعد إلى (بريد المغرب)، ثم بنك المغرب في عام 1926، بالإضافة إلى بعض البنوك الأوروبية والمقاهي العتيقة.
وأضاف أن الساحة تتميز بكون وسطها خاليا، حيث يُمنع فيه البناء بينما لا ترتفع المتاجر المحيطة بالساحة أكثر من خمسة أمتار، وفقا لقوانين وضعتها الحكومة المغربية.
وقال أبو الهدى إن الساحة أصبحت تشهد منذ عهد مولاي إسماعيل، الذي حكم المغرب بين عامي 1672 و1727، أنشطة بهلوانية وفولكلورية والعديد من الحكواتيين، مضيفا أن "المراكشيين ما زالوا يتذكرون مولاي عبد السلام الصاروخ ومولاي أحمد الفطين... فضلا عن الفرق الغنائية الشعبية كفرقة ناس الغيوان والروايس".
وفي الوقت الحالي، تجمع ساحة جامع الفنا بين المشاهدة والترفيه وكذلك التجارة، حيث تحتوي على أكبر مطعم في الهواء الطلق في العالم وتُقدم فيها الأطباق التقليدية الشعبية مثل البيض والبطاطس المسلوقين، بالإضافة إلى أطباق مغربية مثل الكرعين والتقلية والقطاني والحريرة.
من جانبه، قال الكريفة، أستاذ التعليم العالي في جامعة القاضي عياض، إن الساحة كانت في السابق تتميز بكونها مجالا ثقافيا يُفتي فيها الفقهاء الناس في المعاملات الدينية ومجالا تنشيطيا تقام به مختلف الأنشطة الفنية الشعبية، فضلا عن بعض الأنشطة العلاجية والتطبيب وتجمعات لرواة القصص والسير والغزوات.
وأضاف "كانت بمثابة المتنفس الوحيد لسكان مدينة مراكش علما بأن تجار المدينة وحرفييها يقصدون الساحة للاشتغال من الصباح حتى الظهر، وفي المساء يقصدون الزوايا والمساجد في الساحة للتفقه في الدين".
وتابع قائلا "الساحة في البداية لم تكن للترفيه، بل كانت ساحة للتثقيف".
وذكرت العاصمي في حديثها إلى وكالة أنباء العالم العربي أن (جامع الفناء) كان الماضي مؤسسة جامعية كبرى انتقل إليها علماء قرطبة وإشبيلية وبغداد ودمشق من مختلف التخصصات، وازدهرت الحياة العلمية الفكرية والمحاضرات والدروس والنقاشات وحركة التأليف والنشر في مراكش.
وأضافت الشاعرة أن ذلك أدى إلى "توسع صناعة وتجارة الكتاب كالنشر والوراقة وغيرها من المستلزمات لتشمل حيا كاملا أطلق عليه حي الكتبيين، أو الكتبية على طريقة تسمية المهنيين بصيغة فعّالة".